هل من منقذ لمدينة بني ملال من التردي الحاصل على كل المستويات؟

هبة بريس- عبد اللطيف الباز

في قلب جبال الأطلس، وتحت سماء تشتهر بعذوبة مناخها وثراء تربتها، تستقر بني ملال كأنها وعد مؤجل، أرض وهبها الله كل المقومات، لكنها لا تزال تنتظر أن تثمر سياسات تُنصفها. من يزور الإقليم لأول مرة ينبهر بتنوعه الطبيعي، بتلك الحقول الممتدة على مرمى البصر، بالمياه التي تجري في العروق الجوفية، وبالجبال التي تحرسه من الجهات الأربع. لكنه، ما إن يخوض أكثر في التفاصيل، حتى يكتشف أن خلف هذا الجمال، تختبئ حكاية طويلة من الإقصاء التنموي، والتسيير المرتبك، والتبعية التي كسرت العمود الفقري لاقتصاده المحلي.

بني ملال، المدينة التي يعيش كثير من سكانها على إيقاع التحويلات المالية القادمة من الخارج، لا لأنهم لا يملكون البدائل، بل لأن البدائل سُرقت منهم تحت مسمى المشاريع المؤجلة، والمخططات التي وُضعت لتُنسى. كل شهر، تنتظر آلاف الأسر “مسج الوسترن” كمن ينتظر الحياة من جديد، لتحصيل قوت يومهم، أو لتغطية فواتير كهرباء أصبحت أغلى من قدرتهم على الاحتمال، ومياه سقي يتقاسمونها مع مصانع تستنزف الفرشة المائية دون محاسبة. من المفارقة أن تتحول الهبة الإلهية إلى عبء، والماء الذي كان يُفترض أن يكون شريانًا للتنمية، إلى ورقة ضغط تعرّي الفشل.

أما الصحة، فهي جرح مفتوح لا يندمل. مستشفى الجهوي، ذاك الذي يُفترض أن يكون ملجأ البسطاء، تحول إلى نقطة عبور نحو المجهول. طوابير من المرضى ينتظرون دورهم في ضل قلة الموارد البشرية، إلى جانب قلة المعدات والأجهزة التي قد تطالها الأعطاب من حين إلى أخر ، أو وأطباء ملتزمين بلوائح المواعيد المتعددة. التي يتوافد عليها المرضى من مختلف الأقاليم الجهة بل لأن الناس فقدوا ثقتهم في المرفق العمومي.

لكن القصة لا تنتهي عند الصحة، بل تمتد إلى عمق السياسة. ففي هذا الإقليم، يتكرر الفساد كأنه لازمة يومية. يكاد لا يمر عام دون أن تنفجر فضيحة، ودون أن يُعتقل منتخب، أو يُدان مسؤول. اعتقال رئيس المجلس البلدي السابق لم يكن مفاجأة، بل محطة عابرة في مسلسل طويل من سوء التسيير. ومع ذلك، يعود نفس الوجوه للواجهة مع كل موسم انتخابي، مدججين بنفس الأساليب القديمة: القفف، الشاحنات، ووعود تعبيد الطرق التي لا تصمد سوى أسابيع بعد نهاية الانتخابات. المواطن يجد نفسه أمام معادلة مستحيلة: إما أن يُعيد انتخاب من خذلوه، أو يُغامر بوجوه جديدة لا يثق بها. وهكذا، يُختزل الحلم الديمقراطي في لحظة استسلام.

وفي خضم كل هذا، يبقى الأمل معلقًا على قلة تؤمن بأن التغيير لا يأتي من السماء، بل من تضافر الإرادة الشعبية، من عودة المواطن إلى موقع الفاعل، لا المفعول به. بني ملال لا تحتاج إلى صدقات سياسية، بل إلى عدالة تنموية تبدأ من التعليم، وتمر عبر الصحة، ولا تنتهي إلا في كرامة الإنسان. إنها مدينة تستحق أن تكون في طليعة النمو، لا في ذيل الخريطة، فقط لو وجدت من يُنصت لنبضها بصدق.

على هامش المعاناة العامة التي تعيشها بني ملال، تقف كرة القدم كمرآة إضافية تعكس العطب. فريق رجاء بني ملال، الذي لطالما دوّى اسمه في مدرجات الكرة الوطنية، يعيش أسوأ أيامه. لم تعد الهزائم مجرد نتائج رياضية، بل مؤشرات على تآكل مشروع بأكمله. الفريق الذي كان ذات زمن حلمًا جماعيًا لساكنة المدينة، بات اليوم عبئًا ثقيلًا على جماهيره، التي لا تزال تحج إلى الملعب، لا حبًا في المتعة، بل وفاءً لذاكرة.

منظر الجماهير الغاضبة وهي تقف أمام مقر الولاية، ترتدي الأسود كرمز للحداد، يلخص المأساة. لم يأتوا من أجل مباراة، بل من أجل كرامة مهدورة، لفريقهم الذي ضاع بين أيادي مسيرين لا يملكون لا الرؤية ولا الإحساس بالمسؤولية. يتحدثون عن “الوصاية”، عن العبث، عن بيع الأحلام بأبخس الأثمان، وهم يعلمون أن الرجاء لم يكن يومًا مجرد نادٍ رياضي، بل كان مؤسسة اجتماعية، عنوانًا للهُوية والانتماء.

الصدمة الحقيقية ليست في النتائج، بل في غياب المشروع. لا تكوين، لا بنية احترافية، لا استثمار في الفئات الصغرى. الفريق يعيش على الفتات، بينما تُصرف الملايين في جداول لا يعلم أحد مآلاتها. أكثر من ذلك، تحوّل الفريق إلى ساحة حرب انتخابية، حيث تُستخدم نتائجه كورقة ضغط، ويتم التلاعب بمصيره باسم “الدعم المشروط”، في غياب أية رقابة حقيقية.

الجمهور، وهو الطرف الأذكى في المعادلة، لم يعد يثق. لكنه أيضًا لم يستسلم. الوقفة الأخيرة كانت أكثر من رسالة غضب، كانت إعلان ولادة جديدة لحراك رياضي-مدني يرفض أن يُختزل النادي في فئة من المنتفعين. لقد أدرك المشجعون أن الرجاء لن يُنقذ من داخل الملعب فقط، بل من الشارع، من الضغط، من كشف المستور، من رفض التواطؤ مع الصمت.

وإذا كان من دروس يمكن استخلاصها من هذه الأزمة، فهي أن الرياضة ليست ترفًا في المدن المهمشة. إنها أداة للتماسك الاجتماعي، لصناعة الأمل، لبناء جيل يعرف معنى التضحية والانتماء. ولذلك، فإن إنقاذ رجاء بني ملال، هو في جوهره إنقاذ لروح المدينة.

المطلوب اليوم ليس مجرد تغيير أسماء على الورق، بل ثورة حقيقية في العقليات. رؤية واضحة، شفافية مالية، حكامة تُلزم الجميع بالمساءلة، وقبل كل شيء، انخراط حقيقي للساكنة في حماية هذا الإرث الرمزي. الكرة في ملعب الجميع، لكن الحكم هذه المرة هو التاريخ، الذي لا يرحم من خذلوا أحلام مدينتهم.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى