ملاحظات في قضية الأستاذ الجامعي أحمد قليش

الكاتب : د. مصطفى تاج

بعد ان تم تداول قضية الاستاذ الجامعي بأكادير ، والتي تم تناولها على شكل واسع بالإعلام الوطني او الدولي ، تم تسجيل عدة ملاحظات سوف نتناولها بالتفصيل على الشكل التالي :

أولا/ الملف في يد القضاء الذي لولا أنه حرك المسطرة الجنائية في حقه وفتح تحقيقا قضائيا حول التهم الموجهة إليه لما انفجرت قضيته بهذا الشكل الواسع. وهذا لم يكن اعتباطاً وإنما لتوارد الشكايات ضده. وهذه في حد ذاتها خطوة مهمة في بلاد ترفع شعار دولة الحق والقانون وتحترم مبدأ “القانون فوق الجميع” أو كما يقال له بصيغة أخرى “لا أحد فوق القانون”.

ثانيا/ وقوع الأستاذ المتهم في الشبهات لا يعني إلصاق الإدانات جزافا به. فالمتهم مهما كان شخصه يبقى بريئا حتى تتبث إدانته. وفي الإدانة الكلمة الفصل للقضاء الذي يجب علينا جميعاً احترام مساطره ورجالاته وأحكامه، وعدم التسرع في الخوض فيها ولا التدخل في مجرياتها ولا التورط في إصدار الأحكام الجاهزة، احتراماً لاستقلالية جهاز القضاء وامتثالا لنفس الشعار، شعار دولة الحق والقانون.

ثالثا/ كثرة التدوينات والتعليقات حول موضوع المتهم وربطها بمهنته لا بشخصه، وإن فتح ملفا غاية في الأهمية وهو الفساد الذي تعرفه بعض المسالك والماسترات والوحدات الجامعية، وهذا أمر مفهوم ومطلوب ومحمود، إلا أنه لا يجب أن يجمع البيض كله في سلة واحدة. فإن افترضنا اعتباطاً تبوث التهم الموجهة إلى هذا الأستاذ، فسيظل حالة معزولة وسط شريحة من الأساتذة الجامعيين ، من مختلف التخصصات، الذين يضحون بكل ما لديهم ويفنون أعمارهم في البحث والتحليل والتدريس والمواكبة خدمة لأجيال من الطلبة الذين شكلوا ويشكلون عماد النخبة الإدارية والسياسية في بلادنا. فحذاري أن ينسينا هذا الحدث مجمل الآثار الطيبة التي تركها الرواد من الأساتذة المغاربة والتي لا زال ينسجها الأغلبية الساحقة من أساتذة اليوم من شمال المغرب إلى جنوبه. فتحية لهم بهذه المناسبة على صبرهم وتضحياتهم ووطنيتهم وعلى اختيارهم الطريق السليم بدل ما توبع به المتهم اليوم في القصة.

رابعا/ ربط الواقعة بالحديث عن تراجع سمعة الأستاذ الجامعي وتراجع دوره في تأدية المهنة والرسالة يجب أن يكون موضوعيا ويراعي السياقات التي نعيشها. فقبل عقدين من اليوم لم يكن عدد أساتذة الجامعة يتجاوز الثلاثة ألاف، فيما اليوم تجاوز عددهم الاثنتي عشر ألفاً، بما يعني ولوج أجيال جديدة لهذه المهنة، وهذا التضاعف الكبير رغم ما له من إيجابيات مشهودة، فأكيد أنه سيخلف بعض الأثار السلبية وبعض التسربات لمن يهمهم “التيتر” أكثر مما يهمهم ثقل الأمانة ونبل الرسالة وجسامة المهنة.

خامسا/ أستاذ اليوم لم يعد مثل أستاذ الأمس، وهذا طبيعي وليس بالضرورة سلبياً ولا إيجابياً، وإنما لكل جيل رجالاته، طلبته وأساتذته، باستحضار التحولات المجتمعية، الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية.. حيث لم تعد الجامعة لوحدها مؤثرة في المجتمع، بقدر ما أصبح المجتمع أيضاً يؤثر فيها، إن بالإيجاب أو بالسلب. فالجامعة في الأول وفي الأخير عبارة عن مجتمع مصغر، فيها الصالح وفيها الطالح أيضاً. وهذا لا يقاس على زمن محدد دون غيره.

سادساً/ أستغرب لهواة الفضائح، الذين لا نسمع لهم حديثا ولا نقرأ لهم تعليقا، إلا عندما يتعلق الأمر بمثل هذه النوازل، فيما يضربون “الطم” أمام قضايا كثيرة أخرى ترتبط بنهب المال العام والفساد والاستحواذ والاستفراد بثروات البلاد والاستغناء على ظهر الفقراء والمستضعفين. وكأنهم بنيلهم من شخص وقيمة ومهنة هذا الأستاذ المجرد -الحائط القصير- ينالون من التعليم الجامعي الذي لم يلجوه، أو لم يكملوا دراستهم فيه. وكأنهم أيضاً ينتقمون لأنفسهم من فراغ ما، أو يفرغون من خلاله عقداً مدفونة… إنها تجليات لعقد نفسية واجتماعية وثقافية مركبة، ناتجة ربما عن الكسل والخمول وكبث المواقف وتجميد إرادة الفعل، والصمت على أنواع عديدة من الظلم والظواهر السلبية واستغلال أول فرصة لتفريغ (العقد المتراكمة) على ظهر الحائط القصير (كان أستاذاً أو فنانا أو سياسياً أو رياضياً…). المهم أن هذا السلوك يسجل نفسه بالتكرار كقاعدة مغربية بامتياز.

سابعا/ التركيز في هذه القضية على إشكال واحد مفاده كيف لموظف جماعي أن يصبح أستاذا جامعيا وكيف لحساب زوجته المحامية أن يتضمن ثماني مليارات سنتيم، تركيز وإن بدا مشروعا من حيث السؤال حول مسار التملك ونظافة الذمة، إلا أنه يعكس خلفية سيكولوجية تزاوج بين نظرية المؤامرة ونظرية الحقد الطبقي. وتنتصر بوعي أو بدونه لأطروحة إعادة إنتاج نفس الطبقات الاجتماعية. بما يعني أن الموظف الجماعي لا حق له في التحصيل الجامعي ولا في التدرج المهني، وبأن محامية متزوجة من أستاذ جامعي يجب أن لا يتجاوز رقم حسابها بضعة ملايين… وأن لا حق لهما في الارتقاء الاجتماعي وصعود سلم الغنى. وكأن المدبجين لمثل هذه العناوين في تحقيقاتهم وتدويناتهم يريدون لفقراء هذا البلد أن يبقوا فقراء للأبد وأن لا يجتهدوا في مساراتهم المهنية والعلمية. وهذا سقوط أخلاقي وثقافي فاحش وعنف رمزي ظاهر.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، أولم تفتخر بلادنا بشخص ميلود الشعبي الذي بدأ مساره راعي غنم واستطاع أن يصير من أغنى أغنيائها؟
أولا تفتخر بلادنا بشخص مثل أحمد التوفيق بدأ مشواره معلما فأكمل دراسته واستطاع أن يصير أستاذا جامعيا فائزا بجائزة المغرب للكتاب، ثم وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية لحوالي عقدين من الزمن ولازال.
الفقر ليس عيبا كما أن الغنى ليس حكرا على أحد دون سواه أو على طبقة دون أخرى. والاجتهاد في الدراسة والتحصيل من أجل التدرج في المهنة أو تغييرها لما هو أحسن وأفضل ليس عيبا بل هو شيء محمود ومطلوب وإيجابي… فالكد والمثابرة يخدمان صاحبهما وينفعان بطريقة غير مباشرة الإدارة المغربية والدولة الوطنية.

ثامنا/ أحس بغبن شديد وأنا أتابع مجريات هذه الواقعة وحيثياتها وتعليقات العموم حولها، بالشكل الذي يضر بالمشتغلين في حقل القانون بصفة عامة، خصوصاً وأن سياق اليوم يتزامن مع إطلاق النسخة الالكترونية مجانا لمؤلف جماعي بادر إلى إصداره أستاذان مجدان وهما رئيسا شعبتي القانون العام بكل من كليتي أكدال والسويسي تكريماً لواحد من رجالات البحث القانوني الكبار الأستاذ محمد مدني، والذي تجاوز الستمائة صفحة بمشاركة تسعة وعشرون أستاذا وباحثاً جامعياً، لا يتناطح عنزان في مصداقيتهم ونزاهتهم جميعهم. فكيف يتلطخ حقل يعرف مثل هكذا مبادرات إنسانية وعلمية بمثل ما نرى ونتتبع من تهم وكليشيهات جاهزة في حق الحقل ومن ينتمي اليه؟

تاسعا/ أرجو صادقاً أن يشمل التحقيق جميع جوانب القضية وجميع الجهات والعناصر المشتبه بها. وأن تعلن نتائجه بشكل نزيه وشفاف. حتى تكون هذه النازلة درسا لكل من سولت له نفسه التلاعب بمهنته التربوية (في حالة الإدانة) أو تكون درساً لكل من أراد المس بسمعة الأستاذ وتوريطه فيما ليس به علاقة (في حالة البراءة). والحسرة قائمة وجاثمة على الجامعة المغربية التي للأسف الشديد تتورط سمعتها في الوحل في كلتا الحالتين.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى