مدنٌ بالشمال تتغنى الجَمال.. فما سِرُّ تخلُّف مدن أخرى عن الركب؟

محمد منفلوطي – هبة بريس

هو نموذج من نماذج عدة لمغرب السرعتين ذو التفاوتات بين المناطق التي لم يعدْ يُريدها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ذلك ما أعلن عنه في خطاب العرش، وعبر عنه بكل أسف بأن هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، لازالت تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية، وهو ما لا يتماشى مع تصور جلالته لمغرب اليوم، ولا مع جهوده في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية، وتحقيق العدالة المجالية، فلا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين.

** مدنٌ بالشمال تتغنى بالجَمال.. فما سِرُّ تخلف مدن أخرى عن الركب؟

الكل يعيش على ايقاعات العطلة الصيفية ومصاريفها المكلفة، مُعظم الأسر التي أنهكها تعاقب المناسبات ولهيب الأسعار والمحروقات، أعلنت النفير نحو وجهتها المفضلةلعلها تُزيل عنها وعن صغارها عناء عام كامل حافل بشتى أنواع المغامرات في حياة يطبعها منطق ” جري عليا نجري عليه”.

** لكل واحد وجْهة هو مُوليها

هناك من اختار وجهته بين جبل وشاطئ ورمال ذهبية، فعلا إنه المغرب ولله الحمد، بفضل موقعه الاستراتيجي على واجهتين بحريتين وبصحراء مغربية شامخة ممتدة من طنجة إلى الكويرة، وبجبال شامخة وسهول وهضاب وأنهار، كل ذلك جعل منه نقطة جذب سياحية بامتياز، زاد من حدتها وضعه الأمني المستقر والآمن، وطيبوبة سكانه وحفاوة استقبالهم بتقاليدهم الخالدة الأصيلة، كلها مقومات جعلت من المغرب بلدا سياحيا فريدا من نوعه.

مُخطئ كل من يظن أن بلادنا الغالية تفتقر للمقومات السياحية الرائدة، فهي التي تتغنى جمالا وثقافة وتاريخا وحضارة، وهي التي تضم بين ثناياها جبالا شامخة شموخ أهلها، وسهولا وبحارا ورمالا ذهبية صفاء قلوب ناسها، وقد استطاعت بلادنا بفضل من الله، وسياسة ملك البلاد الحكيمة، أن تُزاوج بين الأصالة والمعاصرة بحاضرها المشرق المشرف في الصناعات والتكنولوجيا والابتكارات وثورة الرياضات، علاوة على مشاريع أخرى ذات طابع سياحي واقتصادي أزعجت الجار القريب قبل البعيد.

**رحلة وتشخيص دقيق لواقع البنيات التحتية

يحق للمرء أن يقارن بين المدينة التي اختارها لقضاء عطلته، ومدينته الأم، لا شك أنه سيجد الفرق…وهو يهمس في أذن صاحبه يحتسي فنجان قهوة سوداء على شاطئ البحر …شتان بين هُنا وهناك أصديقي.

طبعا، وهو يرى بأم عينيه كيف تسير الأمور وتُدار على مختلف الأصعدة بمحطته الصيفية اللحظية، فيأخذه الحنين شوقا وغيرة على مدينته مسقط رأسه التي تركها تعاني وتصارع من أجل البقاء، وتحمله الذاكرة إلى الوراء لحظات، ليستعيد معها حجم المعاناة مع ايقاعات آلات الحفر العشوائية التي لم تتوقف عجلتها طوال السنة دون جدوى، وضعف البنيات التحتية واللائحة طويلة، ليصيح وهو يجالس رفيقه على فنجان قهوة قبالة فضاء ينعش الروح: ” ولا علاقة بين مدينتي و هنا بمدن الشمال التي تتغنى جمالا وهدوءا وحس بالمسؤولية…

**مدن الشمال تتغنى الجمال…شتّان بين هُنا وهُناك

إنه الجمال بقول صاحبنا يتغنى بألف معنى، ويرقص فرحا بقدوم الزوار من مختلف الديار، هنا شمال المغرب الزاهي يستهوي هواة السباحة والسياحة والغوص في أعماق المتوسط…وهناك مدينته التي تركها تعاني سياسة الترقيع و”الصراع الانتخابي الخاوي”، وضعف التسيير والتدبير، وتبكي الشوارع والأحياء دما على ما طالها من تهميش.

طبعا، شتان بين مدينة ” هاذ خونا” وبين الوجهة التي اختارها لقضاء عطلته، والتي وما أن لامست قدماه الرمال الذهبية وانتعش جسمه النحيف بمياه المتوسط الزرقاء الصافية، حتى اشتد غضبه وحسرته على واقع مدينته التي بها ولد وتربى واستقر…يا للأسف..

هنا غابت عن أخينا تلك المظاهر المشينة التي تعوّد سماعها من سب وشتم وعراك وكلام نابي، وانتشار للمخدرات ومظاهر العربدة والصراعات، وعربات الخضروات والجر بالدواب، وصور لقطعان الكلاب الضالة، وحدائق تحتضر….هنا وجد المسكين الهدوء والسكينة وحسن الخلق….هناك ترك مَعاوِل الحفر، وآليات الردم تُعاود الحفر ذاته، والانقطاعات المتكررة لمياه الشرب بمختلف الجماعات..

هنا حيث استقر مؤقتا لقضاء ما تبقى من عطلته، وجد نفسه أمام مظاهر تجسد بالملموس حسن التدبير والتسيير، مرافق عامة نالت نصيبها من برامج التنمية، وعمال نظافة وأعوان الانعاش الوطني مرابطون بدون كلل ولا ملل، يسهرون الليالي حفاظا على جمالية المكان، واخراجها في أبهى حلة لمرتفقيها، هناك، من حيث أتى، ترك وراءه كثر الهرج والمرج، وسوء التدبير والتسيير وتغليب المصالح الشخصية الضيقة على المصالح العامة، و مظاهر البداوة والعصور والوسطى، وكثرة النفايات…

حاول أخونا، أن يبحث لنفسه عن جواب لسؤال ظل ملازما له طيله رحلته: ” علاش مدينتي ماشي بحال هذه المدينة”؟

” واش أعباد الله، الأمر يتعلق بعقلية مواطنيها أم له علاقة بغيرة وجدية وكفاءة مسييرها ومدبري شؤونها الداخلية؟ أم هما معا؟”

لمْلَمَ أخونا المتحسر جراحه وآلامه استعدادا للعودة إلى مدينته أو قريته، وكله أمل في غد أفضل لعله يأتي وتتغنى حينها مدينته الجمال ذاته وتعود لسابق عهدها..

** شيء من نماذج شتى

جولة قصيرة بتطوان وماجاورها، هنا وبالضبط من الجماعة الحضرية ” مارتيل”، هنا يقف المرء وقفة احترام وتقدير لرجال ونساء الأمن المرابطين بالطرقات والممرات والإدارات، يقدمون الخدمات ويسهلون حركة مرور السيارات والدراجات، هنا يقف الكثير منهم بالقرب من ممرات الراجلين يسهرون على أمن وسلامة المارة، في الجانب الآخر عمال نظافة يشتغلون بلا كلل ولا ملل، وبينهما يقف صنف آخر يسقي ويروي الأرض ويرعى أزهارها وخضرتها التي تسر الناظرين…

داخل الشاطئ، دوريات أمنية على دراجاتها النارية رباعية الدفع تتصدى إلى كل تحرك مشبوه، وعلى طول الرمال عائلات وأسر وأطفال يبحثون عن لحظة للاستجمام، دون أن تسمع آذانهم كلام نابي ولا عراك ولا سب ولا قذف ولا تنابز.. فما علينا أن نقف ونعلنها بصوت عالٍ:

“مدنٌ بالشمال تتغنى الجَمال.. فما سِرُّ تخلُّف مدن أخرى عن الركب؟



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى