كيف ورط أمناء أحزاب أصواتا مزعجة في ملف الدعم العمومي؟”

هبة بريس- عبد اللطيف بركة

في خضم الجدل الذي لا ينتهي حول الدعم العمومي الذي تقدّمه الدولة للأحزاب السياسية، يعود ملف صرف هذه الأموال إلى واجهة النقاش العمومي مجددا، خاصة في ظل استمرار تباين مواقف الأحزاب بشأن تدبير ما حصلت عليه من موارد مالية، بين من أرجع المبالغ غير المصروفة، ومن تعذر عليه ذلك، وآخرين لا يزالون يبحثون عن وثائق لتبرير ما أنفق. إلا أن ما يُتداول في الكواليس، سواء داخل مقرات الأحزاب أو في صالوناتها السياسية، يكشف أن عمق الملف لا يقتصر على ما ورد في تقارير الهيئات الرقابية، بل يتجاوزها إلى ممارسات أكثر تعقيدا وريبة.

مصادر مطلعة تحدثت ل ” هبة بريس” عن معطيات صادمة تتعلّق بكيفية استخدام أموال الدعم العمومي كأداة لإسكات الأصوات المزعجة داخل بعض الأحزاب، تلك التي طالما طالبت بالشفافية في التدبير والوضوح في صرف الأموال، فعدد من الأمناء العامين، وفق المعطيات نفسها، لجأوا إلى إسناد مهام صرف الدعم إلى شخصيات مقربة، أو ذات ارتباط مباشر بقراراتهم، ما أوقع هؤلاء في مآزق مالية وقانونية، بعدما أصبحت هذه الأسماء في الواجهة، تتحمل تبعات ما وُصف بـ”تدبير غير منضبط” لموارد عمومية.

الحاصل اليوم أن تقارير الرقابة المالية، رغم ما تحمله من تفاصيل تقنية، لا تلامس الجوانب السياسية والداخلية للملف، خصوصًا ما يتعلّق بمنهجية التسيير الحزبي الذي ينطلق أساسا من داخل البنية التنظيمية للحزب، قبل أن ينتقل إلى مرحلة الافتحاص المالي من طرف الجهات الرقابية، في مقدمتها المجلس الأعلى للحسابات، فالأخير قد رصد اختلالات تتعلق بعدم صرف جزء من الدعم، ما يستوجب إرجاعه، غير أن الصورة الكاملة تكشف أن بعض الأمناء نجحوا في “توريط” أصوات كانت تطالب بالإصلاح الداخلي، عبر تكليفها بمهام مالية معقّدة، من دون تأطير أو حماية قانونية.

ووفق ما جاء في أحدث تقرير صادر عن المجلس الأعلى للحسابات، فقد قدم 23 حزبا سياسيا حسابات مشهود بصحتها من طرف خبراء محاسبين معتمدين، في حين لم تتمكن أربعة أحزاب من تقديم حسابات سنوية مرفقة بتقارير مماثلة، أما من حيث جودة إعداد الوثائق، فقد سجّلت ملاحظات جوهرية بشأن ثمانية أحزاب، أبرزها نقائص في إعداد الجداول التكميلية، والكشوفات البنكية، وجرد النفقات، وكذا وضعية المقاربات البنكية.

وظهر من خلال التقرير أن عددا من الأحزاب لم يدل بكافة الكشوفات البنكية الخاصة بحساباتها، فيما لم تقم أخرى بجرد نفقاتها أو تحديد وضعيتها البنكية كما ينص عليه المخطط المحاسبي الموحد، الأخطر من ذلك، هو تسجيل نقائص كبيرة على مستوى مسك المحاسبة لدى 23 حزبا، شملت عدم احترام قواعد محاسبية أساسية، مثل قاعدة “عدم المساس بالموازنة”، ومبدأي “تخصيص الدورات المحاسبية” و”الوضوح”.

أما على مستوى إعداد وتنفيذ الميزانيات، فقد أشار التقرير إلى أن 16 حزبا فقط تعتمد ميزانيات سنوية أو مرحلية، غير أن أغلبها لا يحظى بأي مصادقة رسمية من الأجهزة التنظيمية، باستثناء حالات معدودة، بل هناك من أمناء الاحزاب لا يتوفر حزبه على ” أمين مال ” ولم ينظم مؤتمراته وفق القانون المعمول به ،لا يعرف بعد طريقة تسلمه الدعم العمومي وطريقة تدبيره ، هذا الواقع يظهر أن الطابع المركزي للميزانيات يطغى على العمل الحزبي، إذ لا تعبّئ هذه الأحزاب مواردها بشكل فعّال لصالح تنظيماتها الجهوية أو الفرعية، ما يضع علامات استفهام كبرى حول جدوى وشفافية تدبيرها المالي.

إن ما يطفو على السطح في هذا الملف لا يمثّل سوى جزء من جبل جليد يمتد عميقًا في بنية الأحزاب السياسية، حيث تتحوّل آليات الدعم المالي أحيانا إلى وسائل للضبط والاحتواء الداخلي، بدل أن تكون رافعة للعمل الحزبي الديمقراطي، كما أن توظيف الدعم العمومي كأداة لتصفية الحسابات الداخلية، يجعل من الأصوات المطالبة بالإصلاح وقودا لصراعات تُدار بميزانيات الدولة.

وإذا لم تُفعّل آليات الرقابة الداخلية قبل الخارجية، وتُحدد المسؤوليات بشفافية داخل الأحزاب، فإن ملف الدعم العمومي سيبقى ورقة سياسية تُستخدم عند الحاجة، أكثر من كونه أداة لتطوير الممارسة الحزبية وبناء الثقة مع المواطن.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى